الأناقة الفكرية





قيل :
( كن أنيقا في ملبسك ولن تنساك العيون
وكن أنيقا في فكرك ولن تنساك القلوب ) .

ولو اجتمع الأمران فنور على نور ..

يحدث وأنت في مكان عام أن تلمح من بعيد من هو أنيق الهندام جميل الوجه طلع المُحَيّا  فيجذبك بالتأكيد  بمظهره الخارجي وربما تحاول الاقتراب منه لتتحدث إليه بلهفة  فتسلم  عليه أولا" وتصافحه بحرارة و بوجه طلق ، ثم تتفاجأ فتجده مكفهر الوجه عابسا قمطريرا ، وإذا تلفظ تمنيت أن يصمت في الحال ، عندها بالتأكيد ستتغير نظرتك إليه من الإعجاب إلى النفور ، وقد تأخذ درسا في الحياة مفاده : ( لا تحكم على شخص من مظهره قبل أن تفحص جوهره ) ..

جميل أن تكون أنيقا" في مظهرك ، لكن ما فائدة الأناقة الظاهرية بلا أناقة فكرية يترجمها سلوك مزين بمحاسن الأخلاق  .. وما فائدة أن يكون لباسك ماركه، وحذاؤك ماركه، وساعتك ماركه غاليه الثمن ، وأنت أرخص من كل ما تملك ! ..

كن أنيقا بفكرك .. بحوارك .. بألفاظك .. بتصرفاتك .. بأدبك .. بأخلاقك .. بلسانك الذي يقطر عسلا مصفى ..

كن أنيقا بكتاباتك ولو لم تراك العيون ، فالألفاظ الجميلة التي تكتبها سيسطع جمالها اللؤلؤي في قلوب قرائك فيحبونك وإن لم يروك ، فأنت بقلمك الجميل تضمد جريحا ، وتداوي عليلا ، وتواسي حزينا ، وتجبر كسيرا ، وتنصر ضعيفا ، فتنال من المولى أجرا عميما ، وأيضا ستنهال عليك الدعوات من كل مكان وأنت لا تدري ، فتكسب بذلك  رضا الله ، ورضا الناس ، وسعادة نفسك ، وسعادة الآخرين ..

وبقدر ما يمطر قلمك خيرا على البشريه ستهطل عليه رحمات الله ، فكن بقلمك كالمزن المحمل بالغيث يروي ظمأ الأرض القاحلة .

كن أنيقا بألفاظك ؛ فتأدب في منطقك وتخير أفضل العبارات ، وأرق الكلمات حينما تتحدث مع من حولك ، سواء كان صغيرا أو كبيرا ، أو غنيا أو فقيرا ، وسواء كان يتفق معك أو يختلف معك ، فأنت تتعامل مع الناس بأخلاقك ، لا بأخلاقهم ، لذا لا تنخدع بمن يردد مقولة : ( أسلوبي يعتمد عليك إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ) وكأننا أمام أطفال ؛ قليلي التربية ؛ إن تشاجروا انهالوا على بعضهم بالشتائم والملاسنات ! .

كن أنيقا بأفعالك ، فالفعل هو نتاج فكر جيد ؛ فأعط محتاجا وفقيرا ، وزر مريضا وأخا" لك في الله ، وكن كريما جوادا ، وصل رحما ، وأحسن جوار من جاورك ، وتبسم في وجه أخيك المسلم ، وتصدق ، وابذل المعروف لمن عرفت ومن لم تعرف ، ولا تمسك يد المعروف عن أحد ما دمت مقتدرا ..

ثم إذا أردت أن تكون أنيقا " في فكرك فغذ عقلك بكثرة القراءة والإطلاع ، ومجالسة أهل الفكر والعلم ، ومن حنكته السنين والأيام ، ثم أكثر من قراءة سير الأعلام ومن ملؤوا الأرض نورا بفيض علمهم الغزير ، وأجمل السير على الإطلاق هي سيرة سيد البشر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - تلك الشخصية المثالية التي لم يكن لها نظير على مر القرون .

لقد كان - صلى الله عليه وسلم  - أنيقا في فكره حتى مع من يعادونه ولا غرو في ذلك فقد أدبه ربه فأحسن تأديبه حتى قال عنه ربه : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) وتتجلى أناقته الفكريه في مواقف شتى ومنها أنه لما خرج من مكه إلى الطائف مشيا على الأقدام ليدعوهم للإسلام استقبلوه سادات قريش  بالسب والشتم ووصفوه بالمجنون ، ثم طردوه ، ولم يكتفوا بذلك ، فقد أغروا أطفالهم وسفهاءهم ليرموه بالحجارة  - صلى الله عليه وسلم - حتى سال الدم من قدميه الشريفتين ، ولما رجع في طريقه إلى مكه حزينا مهموما ، أرسل الله له ملك الجبال ليطبق عليهم الأخشبين ( جبلين ) فرفع رأسه - صلوات الله وسلامه عليه - وأبى قلبه الرحيم أن ينتقم منهم قائلا : ( إني لأرجو من الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا ) .

حتى الجمادات التي لا تعقل كان لها نصيب من أناقته الفكرية - صلى الله عليه وسلم - فهذا جبل أحد لما مر به النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه - رضوان الله عليهم  - ، نظر - عليه الصلاة والسلام - إلى جبل أحد في المدينة النبوية وقال : ( أحد جبل يحبنا ونحبه ) فعبر عن مشاعره ، وعن حبه لجبل أحد مع أن الجبل صخرة صماء  لا تعقل ، وهذا من حسن خلقه وجمال منطقه ، وسمو فكره ، صلى الله عليه وسلم  ، كذلك لا ننس قصة حنين الجذع لما فارقه النبي - صلى الله عليه وسلم  - واتخذ منبرا لخطبة الجمعة عوضا عنه ، أخذ الجذع يحن ، فسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم  - يبكي حنينا فنزل من على المنبر و احتضنه - عليه الصلاه والسلام - فسكن وهدأ ، وفي رواية لابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم  - قال : ( ولو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامه ) رواه أحمد  .

ولو تصفحنا سيرته العطره - صلى الله عليه وسلم - لن نجد حرفا واحدا يوحي أنه شتم ، أو ضرب ، أو قتل ، أو انتقم ، بل كانت سيرته تفوح بمحاسن الأخلاق اللفظية ، والفعليه حتى مع أعدائه .

ما أحوجنا أن نتأسى بسيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - في حسن تعامله مع من يعايديه ، وفي حسن تعامله مع صحابته - رضوان الله عليهم - وفي حسن تعامله مع أهل بيته الشريف الطاهر ، وفي حسن تعامله حتى مع الأطفال الصغار ..

أنيق في فكره - صلى الله عليه وسلم - فلم يؤذ أحدا" بلسانه ، ممن سبوه ، أو شتموه ، أو استهزؤوا به ، أو قالوا عنه ساحر .. كاهن .. شاعر .. مجنون  ، لقد كان لسانه عفيفا نزيها مصونا لا يقول إلا طيبا ، وهو أيضا لم ينتقم ممن ناصبوه أشد أنواع الأذى وتآمروا على قتله ، بل عفا عنهم وصفح عن إساءتهم ؛ لينقل للبشريه جمعاء أخلاق الإسلام ، أشرف الأديان  السماوية على الإطلاق .

إذن ،  كن أنيقا في فكرك ؛ حتى لا تعتدي على أحد ، ولا تظلم أحد ، ولا تجرح أحد ، ولا تسيء لأحد ..

كن مميزا" بأناقتك الفكرية حينما تتحاور مع غيرك ، أو تبدي وجهة نظرك ، وحينما تطرح فكره ، أو تناقش موضوع ، فألفاظك ترجمان لما يمليه عقلك ، وكلما نضج فكرك استقام لسانك ، وكان سلوكك منضبطا" متزنا" .

اهتم بأناقتك الفكرية قبل أناقتك الظاهرية ، فمن العار أن تكون جميل المظهر قبيح المخبر ، ومن العار أن تصرف الآلاف من الأموال ؛  لتحسين هندامك وتهمل تحسين فكرك بما حوى من منطق وتصرف وسلوك ..

 كن أنيقا في فكرك أولا" باختيار أحسن الالفاظ لمن تتخاطب معه ؛ فاللسان يترجم ما يقوله العقل والفكر ، ووالله بقدر أناقتك الفكريه ستعلو عند الله تعالى طالما اكتسيت بمحاسن الأخلاق وفي الحديث  : ( أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه ) .
كلنا يتمنى أن يملك بيت في الدنيا فما بالك ببيت في أعالي الجنان لا يكلف شيئا سوى أن تتحلى بمحاسن الأخلاق ،  فاللهم اهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا انت ، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت .

                                        ✒️ سلمى الحربي