أَحقَدُ مِن جَمَل .. !




قيل في المثل : «  أحقدُ من جَمَل ! » ، فالجمل لا ينسى من أساء إليه ، ولو مرت عشرات السنوات ، متى ما وجد فرصة سانحة ينتقم فيها ممن آذاه سيفتك به ولو أدى لقتله ؛ فحقد الجمل مُتأصِّل فيه ، فلا يمكن أن تمر أذية من آذاه مرور الكرام ، فهو سينتقم ولو بعد حين  ..! .

وما يُؤسِف جداً ، أنَّ هذه الصفة الذميمة لا تقتصر على الجمل ، بل يتصف بها بعض البشر ؛ فهو حقود من الدرجة الأولى ؛ فمن أخطأ في حقه ؛ مستحيل أن يتغاضى عنه ، أو يسامحه ، بل يُسارع بالانتقام فوراً ؛ لأن الحقد ملأ قلبه ، والشيطان نفخ في سمعه وبصره وقلبه ووسوس له :« لا تكن ضعيفاً ، بل رد لهم الصاع صاعين » ! .

نحن نقرأ القرآن ، ونتلو هذه الآية الكريمة التي امتدح الله بها عباده المؤمنين : « وإذا ما غضبوا هم يغفرون » ، « وليعفو وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم » ، « والعافين عن الناس والله يحب المحسنين » نقرأ هذه الآيات ، لكن هل نطبقها فعلاً ، ونقف عند حدود الله ، ونقول : ( يا رب سمعنا وأطعنا ) ؟!  ، الواقع غير ذلك ، والنتيجة للأسف الشديد ؛ أنّ هذا وذاك ، وهؤلاء ، وأولئك  امتلؤوا حقداً على بشر مثلهم ، فانتقموا بطريقتهم الخاصة ؛ وبذلك تفشّت الخصومات ، والنزاعات بين الناس ، وتقاطع الأرحام ، والجيران ، والأهل ، والإخوان ؛ لأجل زلة نطق بها فلان ؛ فانهالت عليه الشتائم ، وربما حدث سلوك غير متعمد ، فسّره من رآه بسوء الظن ، ثم انتقم أيما انتقام !! .

أتعجب أحياناً ، ممن قضوا سنوات طويلة عريضة ، قد تصل لثلاثين ، أو أربعين سنه ، وهم متقاطعون ؛ لأجل حطام دنيا زائلة ، والأمَرُ من ذلك أن يتوارثوا الحقد جيلاً بعد جيل ؛ مما يدلك على كمية من الحقد الدفين المتأصلة في نفوسهم غير السوية  ! .

هاجرين لبعضهم البعض ، وكأنَّ الهجر ، والقطيعة ستحل المشكلة من أساسها ، وهذا - والله - من الفَهْم السقيم ، والبعد كل البعد عن تعاليم الكتاب والسنة التي هي مصدر عزنا ، وسعادتنا ، وسؤددنا نحن المسلمين .

يا إلهي ، متى يعوا ويفتحوا أسماعهم وقلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ، متى يدركوا أن في القرآن آيات تقرع أذهاننا ليل نهار ، فتُقيم الحُجة علينا ، متى يسمعوا ويطيعوا ، وتلين قلوبهم خشية وإنابة لمولاهم ، فاليوم هم أحياء وباب التوبة مفتوح ، وغدا ربما ينعاهم القريب والبعيد وهم تحت التراب يتمنون أن يعملوا ولو حسنة واحدة ، ولسان حالهم يقول :  ( ارْجِعْنَا نَعْمَلْ صالحًا إِنَّا مُوقِنُونَ  ...)  .

الله - جل جلاله - ما أنزل علينا  هذا القرآن العظيم لنشقى ، بل لنسعد ، ونرضى ، ونسير في درب الفلاح ، وهاهو القرآن يحكي لنا أنموذجا عمليا  في قصة حادثة الإفك ، لَمَّّا نال المنافقون من عرض رسول الله -  صلى الله عليه وسلم - واتُّهِمت الطاهرة المطهرة من فوق سبع سماوات ، حبيبة رسول الله -  عليه الصلاة والسلام - عائشة  - رضي الله عنها - ظُلماً وعدواناً ، وكان ممن خاضوا في إشاعة حادثة الإفك ، مسطح ، أحد أقارب أبي بكر الصديق -  رضي الله عنه - فكان ينفق عليه أبو بكر الصديق بِحكم فقره ، ولما علم أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -  أنه ممن خاضوا في إشاعة حادثة الإفك ، غضب و كانت ردة فعله أنه توقف عن الإنفاق بماله على مسطح ، ولما نزلت الآيات في تبرئة السيدة عائشة رضي الله عنها ، نزلت أيضاً من السماء آيات تُقرأ إلى يوم القيامه تحث أبا بكر الصديق -  رضي الله عنه - على خلق العفو والصفح لقريبه مسطح ، واسمعوا معي هذه الآية التي نزلت في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -  : « وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ   » ..

امتثل أبو بكر الصديق -  رضي الله عنه - لأمر مولاه فوراً ، فعفا وصفح عن مسطح ، وعاد ينفق عليه كما كان في السابق .
لقد كان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقافين عند حدود الله ، سريعي الامتثال لمولاهم ، فما إنْ تنزل آية من القرآن ، حتى يهتفوا جميعا : « سمعنا وأطعنا » ..

ونحن ماذا نقول عن حالنا ، والقرآن ينادينا .. يبشرنا .. يرغبنا .. يرشدنا ، يدعونا لخيري الدنيا والآخرة ،  وما من مجيب !!  فيا رب أصلح أحوالنا ، واهدنا للتخلُّق بخلق التسامح ، والمحبة ، وحسن الظن بالناس .

اهدنا يا الله ، لخلق العفو ، والصفح ، ليس خوفاً ممن آذانا ، أو ضعفاً ؛ بل طمعاً في جزيل ثوابك ، ونيل مغفرتك : «   ألا تحبون أن يغفر الله لكم .. » بلى يا رب ، نحب أن تغفر لنا .

                                          ✒️ سلمى الحربي