فقر المشاعر ..!



قبل الإسلام كان الناس في ضلالة عمياء ،  فلا يحكمهم قانون ولا دستور ، وكان يغير بعضهم على بعض ، ويقتل بعضهم بعضا لأتفه الأسباب ، وكانت تشن الحروب الطاحنة بالسيوف فتستعر لظى نيرانها أعواما عديدة  ، وكان التفاخر بالأحساب والأنساب وبالقبيله سائدا  في ذاك الزمن ..

ولما جاء الإسلام بنوره الوضاء ، شعت نور العداله وأشرقت الأرض بنور ربها ، فكانت أمة الإسلام هي خير الأمم : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس).

فبالإسلام ساد العدل ، وأصبح الكل سواسية عند مولاهم ، فلا فرق بين عربي ولا أعجمي ، ولا فرق بين أبيض ولا اسود إلا بالتقوى :( إن أكرمكم عند الله أتقاكم) ، فكانت الآيات البينات تنزل على سيد البشر محمد - صلى الله عليه وسلم - فتدعو إلى التآخي ، والتحابب ، والتآلف ، ونبد الفُرقة ، والشِّقاق ..

ولقد كان - عليه الصلاة والسلام - قرآنا يمشي على الأرض ، وقد أثنى عليه ربه حين قال : ( بالمؤمنين رؤوف رحيم ) فهو رحيم بأمته يشفق على صغيرهم قبل كبيرهم ، وما خُيّر بين أمرين إلا أختار أيسرهما رحمه وشفقة وتيسرا على أمته ، ولذلك امتدحه الله بمزيه هي من أجل المزايا وأرفعها عند الله :( وإنك لعلى خلق عظيم ) .

لقد كانت أخلاقه العاليه حديث الرائحين والغادين فهو يبش في وجه هذا ، ويتبسم في وجه ذاك ، ويعبر عن مشاعر المحبه التي تكتنفه تجاه أصحابه - رضوان الله عليهم أجمعين -  فهذا معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أخبره  - عليه الصلاة والسلام - بمدى حبه فقال له :( يا معاذ والله إني أحبك فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول  : (اللهم أعني على ذكرك ، وشكرك ، وحسن عبادتك) ، ولما سئل - صلوات الله وسلامه عليه - من أحب الناس إليك ؟ قال : ( عائشة ، قيل فمن الرجال ؟ قال أبوها ) .

وكان يُقَبل- صلوات الله عليه - حفيداه ، الحسن والحسين ، ويضمهما إلى صدره ويقول :( اللهم إني أحبهما فأحببهما) ولقد كان - صلوات ربي وسلامه عليه - يحب ذلك الطفل الصغير أسامه بن زيد - رضي الله عنه - حباً جماً حتى اشتهر بين الناس بحب رسول الله وابن حبه ، ولما دخل ذات يوم على أنس بن مالك - رضي الله عنه - فرأى أخاه  الصغير يبكي قال لأمه :( يا أم سليم ما بال عمير يبكي حزينا ؟ ) فقالت يا رسول الله مات نُغيره ( أي عصفوره) فلاطفه - عليه الصلاة والسلام - بقوله :( يا أبا عُمير ما فعل النُغير ؟) فأخذ الطفل الصغير يحكي لرسول الأمة - عليه الصلاة والسلام - كيف مات عصفورة ..

لم يُعهد عنه - صلوات الله وسلامه عليه - أنه نطق بقول بذيء أو قبيح ، حتى مع من يناصبه أشد العداوة من كفار وسادات قريش ، فكان لسانه طاهراً كطهارة قلبه ، جميلاً كجمال فؤاده ، لطيفاً ، عفيفاً ، حلواً كالعسل المصفى .

هذه شذرات مورقه من فيض مشاعره  ، وحبه ولطافته - صلى الله عليه وسلم - وهو قدوتنا ، فحري بنا أن نتأسى بعطر شمائلة ، وجميل سجاياه ..

ولما غابت عنا عبق الكلمه الطيبة ، توترت العلاقات وتمزقت عرى الأخوة ، وتفرقت الجماعات ؛ لأجل أننا فقراء في المشاعر ، ولو ملكنا قصور الأرض ، وكنوز الدنيا .

والله لن تضرنا كلمات لطيفه وعبارات جميلة نزين أفواهنا بالنطق بها ؛ فالكلمة الطيبة صدقة ، فما بالك بكلمات وكلمات ، تكسب بها حسنات وحسنات .

لن تضرك نشر كلماتك الجميلة ، ومشاعرك الفياضه لكل من أحببته ، فأخبر فلاناً إذا أحببته أنك تحبه ، ولو أعجبك حسن ملبسه ، فأثني على جميل ذوقه ، ولو جذبك عطره فامتدحه بذوقه الرفيع في اختيار العطور ، ولو أعجبتك صفه من صفاته فأخبره ، ولو صنع لك معروف فاشكره ، ولو احتاج لمسانده فسانده ، ولو ألمّ به همّ أو حزن فاجبر خاطره برقيق الكلمات والدعوات ..

كم هو مؤلم جداً أن يبخل الأب على أولاده بكلمة حانية تسعد قلوبهم وتفرح نفوسهم ، فهم فلذات كبده وقطعه من فؤاده ، فلن تكلفه مالاً كلمة : ( أحبكم .. افتخر فيكم ..أنتم عصافير قلبي ، وبلابلي الجميلة ، وهناء حياتي ، ونبض فؤادي ، ونور عيني ) وهاهو القرآن يحكي لطافة لقمان مع ابنه حينما ابتدأ وصيته بقوله : ( يا بُني ) بل حينما يكررها قبل كل وصية تلطفاً ومحبةً وشفقةً على ابنه : ( يا بُني اقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور) ، ( يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) ، ( يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأتِ بها الله) .

كم مو مُبكٍ - والله - أن تجد أقرب الناس إليك لطيفاً في كلامه ، ورقيقاً في مشاعره مع أصحابه ورفاقه ، وقاسي القلب غليظ الطبع مع أهل بيته ، فلا تكاد تسمع منه كلمه رقيقه ، فلسانه ينضح بالجلافه والغلظة والفضاضة داخل بيته ، أما في الخارج فرقيق الطبع سلس الاسلوب ، طلق المُحيا ، بشوش الوجه واللسان ..

ومن مظاهر جفاف المشاعر ، وتصحر العواطف ، أنك إذا امتدحت فلاناً أمام آخر وأثنيت على جميل فِعاله قاطع حديثك قائلا :(  ولكن فيه ، وفيه ، وفيه !! ، ولا يعجبني في كذا وكذا ..!) ولو حدث أنْ راق لك الجو يوماً ما فحمدت الله على نسمة هواءٍ عليل ، تضجر صاحبنا قائلاً : ( هي سويعات وسنعود إلى لهيب الحر وعواصف القيظ ، وسيعلونا الغبار ، وتلتهب حناجرنا ، ثم نمرض ... !) .

ويتضح ثراء أخلاقك ، وعلو منزلتك ، حينما تعامل القوي والضعيف ، والغني والفقير بنفس رقي الأخلاق ، فلا يزيده ثراء فلان ، ولا ينقصه فقر فلان ، فالكل في الميزان سواء طالما أنَّ أكرمنا عند الله أتقانا ..

ومن المُؤلم أن البعض يسترخص في خادمه ، أو سائقه ، أو عامله ، أو مكفوله كلمه تُطَيّب خاطره ، فتراه يستنقص من قدره ، وربما سبه أو شتمه أو حتى ضربه لأدنى تقصير أو هفوه ..! .

إن أفقر الناس مشاعراً من حرم والديه أجمل مشاعره تجاههم ، فلا هو يحترم كبر سنهم ، ولا يحترم لسانه حينما يرميهم بكلمات فضه ، غليظه ، جافيه ، وكأنه يتعمد أن يصم أذنيه عن داعي الحق حين قال : ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمه وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ) .

كم من البيوتات تشتكي من فقراء المشاعر الذين حولوا بيوتهم بسوء منطقهم إلى أرواح متنافرة ، وقلوب ممزقه ، وأفئدة تبكي ألماً بسبب غياب الطَّيب من القول .

نسأل الله أن نكون رحماء بقلوبنا ، لُطفاء بألسنتنا ،أرقاء بكلماتنا ، كشذا الورد عند نسيم الصباح ينشر عطره الرقيق ، فتنتشي الأرواح سرورا وحبورا .

                                         ✒️ سلمى الحربي

..