شموخ المكارم



هناك أُناس كانوا قبلنا لهم آثار ساميه ، ومكارم جليلة ، وبصمات رائعه سجلها التاريخ تشهد بسيرتهم العاطرة وأفعالهم المجيدة .

توفاهم الله تعالى منذ زمن طويل ، وإلى الآن تلهج الألسنة بالثناء عليهم ، وكأنهم بيننا أحياء ، ومنهم علماء وفقهاء إلى الآن  تتردد أسماؤهم على ألسنة التلاميذ ومعلميهم :( قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، قال أحمد بن حنبل رحمه الله ، قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله ، قال ابن كثير رحمه الله ، قال أبو حنيفه رحمه الله ...وغيرهم كثير ...) .

تركوا وراءهم ثروة علميه ضخمه لا تُقدر بثمن ، ينهل من معينها الفيّاض ونبعها الصافي ملايين المتعلمين .

قال محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله :

قد مات قومٌ وما ماتت مكارمهم

وعاش قومٌ وهم في الناس أموات

في زمن من مضى من هؤلاء كان معهم علماء مثلهم ولديهم مؤلفات مثلهم ؛ لكن الله طوى أسماءهم كما طُويت صحيفة أعمالهم ، فدُفنت أسماؤهم مع دفن أجسادهم فلم يبقَ إلا أهل الله الصادقين المخلصين لله رب العالمين .

إنَّ ذووا المكارم كما يكونون علماء وفقهاء سواء ممن سبقونا أو في عصرنا يكون منهم أيضاً أهل ثراء ونعمة كانوا بمكارمهم ممن جادوا بأموالهم في أوجه الخير ؛ فأطعموا جائعاً ، وكسوا عارٍ ، وسقوا ظمآن ، وبنوا مساكن ، وأشادوا دوراً لطلب العلم ، وتحفيظ كتاب الله ، وأقاموا مساجد يُذكر فيها اسم الله كثيرا .

بعضهم توفاه الله تعالى ؛ فترك نعيماً لغيره ينعم بأجره في دار النعيم المقيم ، وبعضهم حيٌ يُرزق مجهول مُسَمّاه عند أهل الأرض ، لكنه معروف عند أهل السماء ، فهنيئاً له ، ثم هنيئاً له .

أتذكر ونحن صغار كنا نصلي مع والدتي - حفظها الله - صلاة التراويح في المسجد ، فتقول لنا الوالدة حفظها الله : ( هذا المسجد الذي نصلي فيه تُوفي من بناه يوم افتتاح مسجده ، بناه ولم يرى بعينه المصلين في مسجده ! لكن الله أراه بيته في الجنة  ، فمن بنى مسجداً لله بنى الله له بيتاً في الجنة ) .

بنى مسجداً لله في الدنيا ، فغادر دنياه قبل أن يرى عدد المصلين والمصليات في مسجده ، فأكرمه الله وبنى له بيتاً في الجنة بإذنه سبحانه .

أرأيتم نعيماً كهذا النعيم ؟!

هل من الممكن أن نغبطه فنبني نحن مسجداً لله ؟

أتوقع سيقول البعض : ( مستحيل !!) ..

 لا تقولوا :( مستحيل !) فليس في قاموس أهل الخير وأهل الله كلمة : ( مستحيل ) ! .

أنا وأنت وأنتم نستطيع أن نبني مسجداً خارج الوطن ، فمن أراد ذلك فلن يكلفه كثيراً فهو يستطيع أن يدخر من راتبه ، أو يأخذ قرضاً بسيطاً ويبني مسجداً لله ، أو يحفر بئراً يشفع له في آخرته وينير قبره .

أتمنى - يا كِرام - لي ولكم ألا تلهينا دنيانا عن آخرتنا فالبعض لأجل السفر مستعد تمام الإستعداد أن يأخذ قرضاً أو يدخر من راتبه سنوياً ؛ ليرى شلالات وأنهار وطبيعة ساحره في الدنيا .

قَلْبُه مُتَيَّم بأنهار الدنيا ، فماذا نحن فاعلون له ؟!! .

ما الذي يضرك - يا كريم - لو أجَّلتَ سَفْرَه واحده للعام المقبل وأنفقت ما ادخرته لبناء مسجد أو حفر بئر ..!

ألا تريد جنةً تجري من تحتها الأنهار ، ومساكن طيبة في جنات عدن !؟ .

ألا تريد أن ترى أنهاراً من عسلٍ مصفى ، وأنهار من لبنٍ لذة للشاربين ؟!

ألا تريد أن تكون في نعيمٍ سرمدي مع هؤلاء الذين وصف الله نعيمهم في الجنة  حين قال :( مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (١٣) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (١٤) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (١٥) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (١٧) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (١٩) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (٢٠) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (٢١) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (٢٢) سورة الإنسان .

اللهم اجعلنا من أهل الجنان ، وارزقنا يا الله عملاً صالحاً يرضيك عنا ؛ حتى ننال كرم ضيافتك في دار الأفراح والنعيم السرمدي .

ابنِ مسكنك هناك في الجنة بمكارم وأعمال ترفعك عند مليك مقتدر ، فالدنيا دار ممر وليست دار مقر ، فاترك أثراً يجعلك من أهل جناتٍ تجري من تحتها الأنهار لتنعم بدار الخلود مع الأنبياء والصالحين .

                                          ✒️ سلمى الحربي

...