في هذه الحياة ، كل منا تستوقفه لقطات ، تجعله يقف عندها باكياً ، أو متفكراً ، أو مسروراً ، أو معتبراً .
لقد أستوقفتني لقطات جميلة ، كان بوسعي أن أصور لحظاتها ؛ لكنني وقفتُ لأنظر إليها ، فجمال المنظر خَطَفَ مني آلة التصوير ، فاكتفيت بلقطات عابرة اختزلها عقلي ، فحفظ مشهدها ؛ لأرويها لكم من جنبات البيت العتيق :
كنت ذات مرة في أكناف الحرم المُعظَّم أطوفُ في وقت السَّحَر ، حيث سُكون الليل ، وروحانية الحرم ، وهدوء الطائفين حول الكعبة المشرفه .
وأنا أطوفُ قرب الحجر الأسود ، رأيتُ مُحرماً من الهُنود يشع بنور الإيمان والشَّباب ، وقد وقف عند المُلتزم ، بين باب الكعبة المشرفه ، والحجر الأسود واضعاً كلتا يديه على أستار الكعبة وثوبها الأسود ، وإذا به يبكي بصوتٍ علاه النحيب تلو النحيب ، داعياً بصوت عالٍ يتمزق له الفؤاد : ( يا الله بَيْبِيَّ .. يا الله بَيْبِي ) ثم يبكي بنحيب يملأ جنبات الكعبة ، ويُعاود الدعاء : ( يا الله بَيْبَي ... يا الله بَيْبَي ! ) فاهتز فؤادي ، وتوالتْ دمعاتي تترقرق وأنا أردد : ( يا الله أعطه ما تمنى .. يا الله أعطه ما تمنى ..) .
ولقطة أُخرى استوقفتني كانت في الدور العلوي من الحرم المعظم ما بين صلاة المغرب والعشاء ، حيث رأيت أسرة كامله مكونه من أب وأم وبنين وبنات ، أكبرهم لا يتجاوز العاشرة من عمره وقد جلسوا على هيئة حلقة دائرية فالأب يقرأ حفظاً آيتين من القرآن الكريم ، فتكمل زوجته آيتين ، ثم الإبن الأكبر يُكمل ، ثم الذي يليه ويليه ، ثم البنات مروراً مرةً أخرى بالأب ثم الأم ثم الأبناء والبنات ، وهكذا حتي تنتهي السورة ، بترتيل يُطرب الآذان جمالاً وجلالاً لأُنَاسٍ عظَّموا كتاب الله تعالى في أطهر مكانٍ على وجه الأرض .
ولقطة أخرى لإمرأة من السودان في عُمْر والدتي ، كانت تجلس بجواري في المصلى النسائي فبعد صلاة العصر بقليل ، قالت لي : ( هل بوسعك أن تعطيني من وقتك لو تكرمتِ وتُسَمِّعي لي سورة النور غيباً عن ظهر قلب ؟ ) ، فقلت لها : ( على الرَّحْب والسَّعه تفضلي ..) فأخذتْ تُرتل سورة النور بتجويدٍ وجمالِ صوتٍ يطرب الآذان ، ويأخذ بمجامع قلبي ، حتى أنها لم تُخطئ في حرفٍ واحد ، ولما انتهت السورة قلت لها : ( فتح الله عليك ، في أي دورٍ لتحفيظ القرآن أنتِ ؟ ) فقالت :( في السودان حفظت القرآن كاملاً ، وأنا قادمه من السودان ، وسأمكثُ شهراً في مكه ) ، ولله الحمد يومياً آتي للحرم ، وفي كل يومٍ أجدُ من تُسَمع لي سورة كامله من السور الطِوال حفظاً عن ظهر قلب ، فدعوتُ لها خيراً ، ثم دَعتْ لي مع أني لم أطلب منها الدعاء .
ولقطة أخرى في الطابق الأول من توسعة الملك فهد للمصلى النسائي ، حيث كنتُ هناك في الساعة الثانية ظهراً ، فرأيت شاباً مصرياً طويل القامه يلبس بنطالاً وقميصاً علوياً ، وعلى رأسه قبعةً صفراء ، حيث يعمل مهندساً في الحرم مع جماعة المهندسين الذين اعتدنا على رؤيتهم في الحرم .. رأيتُه واقفاً في بداية المصلى النسائي ويشير بيده إلى امرأة من بعيد ، فأتته امرأة كبيرة في السن ، فاحتضنها وقبَّل رأسها ويديها ، وأخذ يتحدث معها طويلاً ، ثم أخرج من جيبه نقوداً فأعطاها لتلك المرأة ، ثم ودعها بالأحضان ، فلما مَرَّتْ من أمامي تلك المرأة سألتُها : ( يا والده من هذا الشاب الذي يتحدث معك ؟) فقالت : ( هذا ابني يعمل مهندساً بالحرم وقد أتى بي من مصر لأداء العمرة ) ، فقلت لها : ( ونِعم الإبن ، ونِعم التربية ، ونِعم البر بوالدته ) فبادرتُها بدعوات لها ولإبنها ، فبادرتني بدعواتٍ لم أسمع في حياتي جمالاً كجمال تلك الدعوات .
ولقطة عابره رأيتُها لجميع المهندسين العاملين في الحرم من جنسيات مختلفة ، يصطفون صفوف تجاه الكعبة قبل بدء دوامهم الصباحي ، ويرفعون أيديهم بدعاء مطول قبل العمل ، كلٌ يدعو مافي قلبه ، ثم ينصرفوا لأعمالهم ، ويومياً يتكرر هذا المشهد الجميل .
ومن اللقطات المؤثرة التي رأيتها ، موقف مؤثر لن أنساه ، فمن أمام الكعبة المشرفه رأيتُ رجلاً من باكستان يحمل طفلاً بعمر ١٠ سنوات والطفل منهار من البكاء الشديد كما لو أنه فقد أحد والديه وتحاول أمه أن تهدأه فيزداد نحيبه وبكاؤه ، فاقتربتُ منه وسألته لماذا تبكي ؟ فكان مستمراً ببكاء شديد فلم يرد علي ، وسألت أمه مابه لا تجف دموعه من البكاء الشديد ؟ فقالت : ( هو متأثر لأنه أول مره يرى الكعبة أمام عينه فانهار باكياً ) .
هنيئاً لطفل تربى منذ صغره على حب شعائر الإسلام وحب الكعبة وجلال الكعبة .
هنيئاً له بوالدين أحسنا تربيته وهنيئاً لوالديه به ..
ولقطات أخرى على السريع لأهالي وجيران بيت الله الحرام الذين يأتوا مبكرين للحرم ليجلسوا أمام الكعبة المشرفه حاملين معهم وجبة الإفطار لصيام الإثنين والخميس ، والأيام البيض ، وهذا المشهد يتكرر لجيران بيت الله العتيق ، ويتكرر كل سنة قُدومهم المبكر في يوم عرفة لبيت الله المعظم حتى يطوفوا بالبيت العتيق وقد خلا من الحجاج ثم يستعدوا لدعاء يوم عرفة ، والإفطار الجماعي في أشرف مكان ، وفي أشرف زمان ؛ ليجتمع لهم شرف الزمان ، وشرف المكان .
ومنظر جميل لأهل مكه ، وهم في الحرم يَعقدون قِران ابنتهم أو ابنهم مع أهل العروسين المقربين وقد حضر المأذون الشرعي ليتم عقد القِران ويبارك للعروسين زواجاً مباركاً في جنبات البيت العتيق .
ومنظر أجمل للمرأة المكية وهي تصطحب معها للحرم المكي طفلها الذي أكمل ٤٠ يوماً منذ ولادته لتطوف به سبعة اشواط شكراً لله على واهب النعمة ، وليكون أول ما يراه بعد والديه واخوته هو البيت العتيق ، وقد كانت أمهاتنا أيضاً يصطحبوننا معهم للطواف في البيت ونحن بعمر ٤٠ يوماً ، لأن هذه عادة اعتادوا عليها من الجدات والعمات والخالات ، وإلى الآن هذه العاده نراها بالحرم المكي الشريف .
ولأهالي مدينة جدة نصيب الأسد من الإستمتاع بجو الحرم الشريف ؛ نظراً لقربهم من مكه ، فيكسبون صلاة وصلوات بمئآت الآلاف على عدد ما صلوا ، ولهم الشرف أيضاً بأعمال خيرية وتطوعية يشهد لها الجميع .
تلكم لقطات لن أنساها ما حييت في جنبات البيت العتيق ، فاللهم زد بيتك المعظم تشريفاً وتعظيماً ومهابةً وبرا .
🖌️ سلمى الحربي
....