في دنياهم ، يُسارعون إلى نيل عَرَضٍ زائل ، وقد يتقاتلون ، ويتباغضون ، ويتحاسدون ، ويتقاطعون ، لنيل حُطامها البالي ، والذي لا يُساوي عند الله جناح بعوضة ! .
وأُناس آخرون ، من عباد الله الصالحين ، يتسابقون ، ويغذون السير ، فمنهم من يعدو ، ومنهم من هو كلمح البصر ؛ خِفةً وتسارعاً نحو المعالي والمكارم ؛ وكُله أمل ؛ ليحظى بدار النعيم في جناتِ عدنٍ تجري من تحتها الأنهار .
أترون ذاك الذي اكتسى ثراءً ونِعمه ؟ ، كيف يتسابق ، وأمواله في يده ، يٌلملم جُرح يتيم ، ويواسي فقيراً ، ويمسحُ دمعة كسيرٍ ، ويسقي ظمأ العِطاش ! .
وذاك الذي جرى في عروقه ، واختلط بدمه ، ولحمه ، وعظمه ، حب البذل والعطاء ، فلا يهنأ له عيش إلا ويده سَحاء فيّاضه كالنهر الجاري ، تٌعطي عطاء من لا يخشى الفقر ، فهذه مساجد يُشيدها ، وهذه آبار يحفرها ، وهذه مشافي يبنيها ، تشهد له برايةٍ خفاقة في سماء الكرم والجود ، لتحمل سيرته العاطرة إلى عنان السماء .
وهذا الصائم في ظمأ الهجير مع اشتداد الحر ، وطول النهار ، يكابد مشقته ، ويواصل سيره ؛ ليفوز بدعوة لا تُرد عند فطره ، ويفوز بجنات عدنٍ مفتحةً له الأبواب ؛ ليدخل من باب الريان ، فهنيئا له ، ثم هنيئاً له .
وذاك الذي سخًّر قلمه ، ولسانه داعياً إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة ، يُسابق الزمان ولا يسبقه ؛ لينشر عبق هذا الدين الأغر في الآفاق ؛ فيفوز فوزاً عظيماً بمكانة عليا عند مولاه : ( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ) سورة فصلت آية ٣٣ .
وكذا من عُرفوا بمكارمهم الخالده في إفطار الصائمين ، وكفالة الأيتام ، وإعالة الفقير من الأُسر ، وفك الضائقة عن المدينين ، والتكفل بعلاج المرضى من الفقراء .
كل هؤلاء يتسابقون نحو المعالي ، فكن مثل هؤلاء ، مُتسابقاً سِباقاً نزيهاً ، يوصلك إلى الجِنان ، فهذان الشيخان والصحابيان الجليلان أبا بكر الصديق ، وعمر الفاروق - رضي الله عنهما - تسابقا ذات يوم في حضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيحدثنا القصة عن عمر - رضي الله عنه - قال : ( أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتصدق ، ووافق ذلك عندي مالاً ، فقلت : اليوم أسبق أبا بكر ، إن سبقته يوماً . قال : فجئت بنصف مالي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما أبقيتَ لأهلك ؟ ) فقلت : مثله ، وأتى أبو بكر بكل ما عنده ، فقال : ( يا أبا بكر ؟ ما أبقيتَ لأهلك ؟ ) ، فقال : ( أبقيت لهم الله ورسوله ) قلتُ : ( لا أسبقه إلى شيء أبداً ) . رواه الترمذي ، وأبو داود .
لقد أتعبت من بعدك يا أبا بكر الصديق ، يا أبا حبيبة رسول الله ﷺ .. يا من كنت وابنتك الأقرب حباً لقلب رسول الله ﷺ .
و هكذا يأتي الترغيب من المولى : {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } الحديد آية ٢١ .. كل ذلك ليتنافس المتنافسون في الآخره ؛ فيكونوا درجات ، ومقامات ، ومنازل عند الله تعالى على قدر أعمالهم .
وبعد ، حدّثتكم عن محسنين ، قلوبهم معلقة بالآخره ، ترجو حُسن النوال ، من لدن رب كريم ، يعطي بلا حساب ، ويجود بلا حدود ، فسبحانه من مولى عظيم النوال .
كُن سباقاً للخير أينما كنت ، كالمُزن المحمل بالغيث ، يروي ظمأ الأرض القاحلة ، فيسقيها ، وينعشها ، وتخضر أراضيها ، فيأكل منها الإنسان ، والطير ، والبهائم ، والدواب ..
🖋 سلمى الحربي
...