الجَبر السَّماوي




الحياة ليست وروداً زاهيه ، وحدائق ذات بهجه ، ولا هي مسرات مُفتَّحةٌ أبوابها ؛ بل هي مزيج بين حُلو ومُر ، نتذوق حلاوتها تارةً فنشكُر المولى على جزيل نعمائه ، وحِيناً نتذوق علقم غُصصها فنصبر ونُؤجَر ، ولو كانت برمتها صفاءً مُطلقاً ، ونعيماً سرمدياً لما اشتقنا لنعيم الجِنان ، ولأنها دُنيا مُتقلبه فلا غَرو إذ تلاطمت بنا أمواجها ، وذُقنا ذرعاً من مرارتها ، وضاقت بنا أطراف الأرض حتى هتفنا : ( يا الله ) حينها وحده المولى يسدل رحماته ، وتفيض سوابغ جوده بعظيم النوال: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) سورة الزمر آيه ١٠ .

يا الله ما أكرمك ، فجزاء الصبر عظيمٌ إذْ أجره بغير حساب ولا عدد  ، فهل في الدنيا ثري يفتح لك أبواب خزينته على مصراعيها ، وبِلا حساب ؟!! .
هكذا يجود الجواد بجوده ، فأين جواد العبد من سيده ؟!!.

وتأتي المعيه الإلهيه كبلسَمٍ يجبُر الصابرين : ( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) سورة البقرة ١٥٣ .
يا لهُ من جَبرٍ سماوي يُلامس شغاف قلوب المكلومين فلا يعتريهم صخب ما دام الله معهم قريب ، ونِعم الرفيق أنت يا الله .

وتتجلى ألطاف الله في كل خَطب ، فهذا النبي  محمد ﷺ يتوارى هو وصاحبه الصديق أبو بكر - رضي الله عنه - إلى غار ثور ؛ فراراً من بطش قريش ، ولما لحق بهم سُراقة بفرسه واقترب منهم وكاد أن يراهم خاف وارتاع أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فهدَّأ من روعه ﷺ قائلاً : ( لا تحزن إن الله معنا ) فغاصت عندها حافر فرس سُراقه ونجاهم المولى من مكر قريش ، وعندها قرر النبي ﷺ وصاحبه أبو بكر الهجرة إلى المدينه النبوية ؛ فراراً بدينهم من أذى قريش ، ولما غذوا المسير نحو المدينة دخلوها آمنين مطمئنين فاستقبلهم أهل طيبة الطيبة بالدفوف فرحين مستبشرين بمقدم سيد الأمه ﷺ وصاحبه أبا بكر وهم يهتفون مسرورين :
طلع البدر علينا .. من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا .. مرحباً يا خير داع
أيها المبعوث فينا .. جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة .. مرحباً يا خير داع

وحينما تتوجه أنت إلى عنان السماء ؛ لتلتمس جبراً إلهياً تتصاعد تلك الدعوات إلى الرحيم الرحمن فيجبر كسر قلبك ، ثم ترضى وتسعد .
وجَبرٌ آخر أكثر مواساه تلقاه في ذلك الكتاب المُعظم ، أعظم كتاب على وجه الأرض مكتوبٌ في ثناياه :( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ) سورة الإسراء آيه ٨٢ .
وفي أول ورقةٍ من كتابه الكريم سورة الفاتحه أم الكتاب السبع المثاني الشافيه التي قال عنها النبي ﷺ :( في فاتحة الكتاب شفاء من كل داء) رواه الدارمي .
هي شفاء من كل سقم كما قال أصدق القائلين ﷺ ، فآياتها تغنيك عن قارورة دواء ، أو كبسوله مُسكن متى ما قرأتها بيقين تام ، قال ابن القيم - رحمه الله - في كتابه زاد المعاد :
 " ولقد مر بي وقت بمكة سقمت فيه ، وفقدت الطبيب والدواء ، فكنت أتعالج بها ، آخذ شربة من ماء زمزم ، وأقرؤها عليها مراراً ، ثم أشربه ؛ فوجدت بذلك البرء التام ، ثم صرت أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع ؛ فأنتفع بها غاية الانتفاع ". 
وأكثرنا أو بعضنا لا يقرأها بيقين تام ، فلسانه يتمتم بفاتحة الكتاب وقلبه وعقله مُتوكلٌ على جرعة دواء ، وكلمةٍ حانيةٍ من طبيبه !!! .
وبعد الفاتحه تأتينا سورة البقرة أيضاً هي شافيه ومباركه ، ولذا قال عنها النبي ﷺ :( اقرؤوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة : أي السحرة) رواه مسلم .

كتاب ربي هو أعظم جبر رباني ، ومواساة ، وشفاء وبالأخص سورتي الفاتحه والبقره ؛ لعظيم فضلهما ، فانهل من بركتها واقرأها بنهمٍ ويقين تام وسترى عجائب أثرها .

القرآن نور يضيء حياتنا ، وعَجبِي لمن استبدل الظلماء بالنور ، عجبي لمن يرى أن الموسيقى الهادئه تُهدئ القلق والتوتر ، وفي كتابه العظيم وأصوات الطبيعه التي خلقها المولى ما يغني عن موسيقى حرمها الله تعالى .

ألا فليهنأ من اعتصم بمولاه ، وفوض أمره لمن بيده ملكوت السماوات والأرض ، ومن بيده أن يقول للشيء كن فيكون .

                                          ✍️ سلمى الحربي