العُزلة الراقيه



إنَّ صخب الحياة ، وضوضاء المدنيه ، وضغوط العمل ، والمهام الشاقه سواء كانت ذهنيه أو حركيه ، والعلاقات السامه كل هذه وغيرها تجعلك أقل حماساً ، وأكثر استثاره ، وقد تستنزف طاقتك العقليه والجسديه ؛ ولذلك أنت تحتاج لساعة هدوء ، ولعُزلة مع نفسك في مكان هادئ لا لكي تهرب من واقعك وتنعزل كلياً عن الناس ، بل هي عزلة وقتيه وراقية لبرهةٍ من الزمن تراجع فيها قراراتك ، وترتب أفكارك ، وتنظم ضجيج عقلك باستبدال الفكره السلبية بإيجابيه ، وإحلال التفاؤل محل التشاؤم ، وإيجاد الحلول الجذرية التي توصلك للسلام الداخلي ، ولو استصعب عليك لملمة شعث أفكارك فلا بأس بالإستعانه بمختص .

إنَّ العزلة الراقيه لا تعني أن تقفل على نفسك الباب ، وتظل حبيس الجدران تتأمل طول وعرض غرفتك ؛ بل تعني أن تنهض من هذه العزله المقيته ، وتخرج من بيتك لمكان أرحب ترى فيه زرقة البحر ، وشَاطِأه ، ونسيمه العليل وهو يلامس قسمات وجهك ، هُنا استمتع بتلك اللحظة الجميلة ، واسترخِ بجسدك ، وأنت تراقب أمواج البحر ، وتسمع هديرها ، وترى أسماكها ، وحيتانها ، وأصدافها ، وقواربها ، ولو أطلتَ النظر إلى علو السماء وانعكاس زُرقتها على الماء وأنت تتأمل ستجد نفسك تقول من أعماق قلبك" سبحان الله " .

ومن العزله الراقيه أن ترافق نفسك برياضة تعيد النشاط والحيوية لأجزاء جسدك المرهق ، وأفضلها رياضة المشي مهرولاً ؛ لتسمع وترى من خلالها خطوات أقدامك ، وتصبب عرقك ، وتسارع نفَسِك ، واستجابة كيانك لهرمون السعاده والبهجه .

ولو اخترتَ عزلة أخرى أكثر رقياً فهاكِ ورقة وقلماً واسمح لصرير قلمك أن يسكب خواطرك ، أو قصصك ، أو رواياتك ، أو قصائدك ، أو مقالاتك ، ولو كنت تملك ريشة فنان فارسم ما تتخيله لوحة فنيه بألوان تبث الروح في حنايا الجسد .

وإذا عَبستْ في وجهك دنياك ، وبَسرتْ ، وضاقت بك الأرض بما رحبت ، ففارق ضجيج مجتمعك ، وغادر أرضك ، ولملم حقائب سفرك ، وطِر بعيداً لبلاد الخُضرة والطبيعة الساحره ؛ لتعيش عزلة راقيه وفريده من نوعها مع التلال ، والوديان ، والأنهار ، والجداول الرقراقه ، والبحيرات ، والشلالات ، واخضرار بساط الأرض .

حَتماً هناك سَتُسَر عيناك وأذناك وكل جوارحك ، فقط استمتع بتلك اللحظات ، وركز في بديع صُنع الله ، وجمال هذا الكون الذي أبدعه الخالق جل في عُلاه .

ومن أرقى أنواع العُزله ، هي الهجر الجميل لذوي العلاقات المؤذية بلا لوم ، ولا عتاب ، فقط غادر مجالسهم بصمت ، فالأماكن الملوثة لا يليق بك أن تبقى في قذارتها ونتن عفنها ؛ فالحياة حلوة بعيداً عن هؤلاء الذين لا يضيفون لحياتك شيئاً يستحق أن نندم عليه !!  .

وبعد ، فكلنا نحتاج لعزلة راقيه نناجي فيها الإله بإبتهال ، ودعاء ، واستغفار ، وصلاة خاشعه ، ولا سيما في ثلث الليل الآخر والناس نيام ، وكذا نحتاج عزلة راقيه نُحاسب فيها أنفسنا عما اقترفته يدانا من آثام في حق الله تعالى ، أو حقوق العباد ، بتوبة صادقه ، ورد الحقوق لأصحابها .

وأجمل مافي العزلة الراقيه أنك تَسمعُ جيداً لصوتك الداخلي حينما يهمس في أذنك ، فتلتقط الأجدر والأنفع لك ، ولا تلتفت لما قد يضرك أو يؤذيك ، ولذلك فقلبك دليلك كما قال ﷺ :( استفتِ قلبك ولو أفتاك الناس وأفتوك ) رواه أحمد . 

فأنت لا ترتاح لفعل هذا الأمر ؛ لأن قلبك بوصلتك ، وكثيراً ما نسمع : " قلبي يُحدثني أن افعل أو لا تفعل ، أو قلبي لا يرتاح لفلان ، ولا يرتاح لهذا المكان ". 

يوماً بعد يوم ستتعلم من العزلة الراقيه الحِكمة ، وسداد الرأي ، والتريث ، والصبر ، والتفكير الإيجابي الذي يقودك لدرب النجاة والفلاح .

كما أن العزلة الراقيه تجعلك تتفكر في خلق الله ، ولذا امتدح الله عباده المؤمنين بصفة التفكر فقال : ( ويتفكرون في خلق السماوات والأرض . ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك ) سورة آل عمران ١٩١ .

                                         ✍️ سلمى الحربي

_